بدائل الإحتجاز وفعاليتها في المنظومة الجنائية
الدكتور محمد الموسى – خبير القانون الدولي لحقوق الإنسان
يتمثل الهدف الأساسي من وراء العمل بعقوبة الحبس في تقليل فرص إرتكاب الجناة لجرائم جديدة، وتأهيلهم وإعادة إدماجهم في المجتمع. وقد دل الواقع والدراسات العلمية على أن الإحتجاز والعقوبات السالبة للحرية قد لا تكون الأكثر كفاءة وفعالية لتحقيق الغاية المذكورة، فهي بسبب أنها تستند على إستبعاد وإقصاء الجناة عن بيئتهم الإجتماعية والمعيشية الطبيعية، قد تكون سبباً  لعدم تكييفهم مجدداً مع مجتمعاتهم. ولهذا السبب قيل بأن السجن هو وسيلة باهظة التكاليف لإنشاء أشخاص أكثر إجراماً وخطورة . الأمر الذي حدا بالمجتمع الدولي إلى العمل على إيجاد تدابير بديلة عن الإحتجاز والعقوبات السالبة للحرية ، وكان ذلك  بالتزامن مع تطور حركة حقوق الإنسان الدولية .
يقصد بالتدابير غير الإحتجازية بوجه عام أي تدابير تتخذ بقرار من قبل سلطة مختصة قانوناُ، بغية إخضاع المشتكى عليه أو المحكوم عليه بجريمة لشروط وإلتزامات لا تتضمن إيداعه في السجن
 
أما فيما يتعلق بالأسباب الدافعة للعمل ببدائل الإحتجاز، فمن المسائل اللافتة للنظر اليوم أن أعداد السجناء في العالم في تزايد مستمر. و مما لا شك فيه أن إزدياد أعدادهم سيؤدي بالضرورة إلى عدم إحترام المعايير والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء والمحرومبن من حريتهم التي أقرتها الأمم المتحدة، الأمر الذي يعني أن ضمانات المعاملة الإنسانية لن تتوافر. وإذا كان السبب المذكور يعد من بين الأسباب المباشرة و الأساسية التي أدت إلى الأخذ بفكرة التدابير غير الاحتجازية، فهناك كذلك أسباب ومبررات أساسية أخرى تستدعي العمل بهذا النوع من التدابير و أهمها : الآثار السلبية الماسة بحقوق الإنسان الأساسية التي تترتب على العمل  بالتدابير الإحتجازية في غير الحالات التي تستلزم هذا النوع من التدابير، إرتفاع تكاليف السجن وتأثيرات ذلك على أوضاع الإحتجاز وترديها، الإستخدام المتعسف للسجن وبالأخص في بالنسبة للحالات المتعلقة بجرائم بسيطة أو جرائم غير عنيفة وفعالية التدابير غير الإحتجازية في عدد من الحالات في بلوغ الغايات المرجوة من نظام العدالة الجنائية بالموازنة مع التدابير الإحتجازية.
 
لا جرم أن قانون حقوق الإنسان الدول ساهم  بصورة واضحة في تطوير فكرة التدابير غير الإحتجازية و عزز العمل بها. فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية يؤكد في المادة (9/1) على أنه "لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً، و في المادة (10/1) يوجب أن "يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية، تحترم الكرامة المتأصلة في الشخص الإنساني".أما اتفاقية حقوق الطفل فإن المادة (37/ب) منها تنص على: "أن لا يحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية. و يجب أن يجري إعتقال الطفل أو احتجازه أو سجنه وفقاً للقانون، و لا يجوز ممارسته إلا كملجأ أخير و لأقصر فترة زمنية مناسبة". كما تبنت الأمم المتحدة جملة من المبادئ والمعايير التي تؤكد على أن التدابير الإحتجازية يجب أن تكون ملجأ تخيراً، و أن أي شخص محتجز يجب أن يعامل معاملة إنسانية. و من بين أهم الإعلانات التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا المجال: المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء، القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم، قواعد الأمم المتحدة الدنيا النموذجية لإدارة شؤون قضاء الأحداث (قواعد بكين)، قواعد الأمم المتحدة بشأن حماية الأحداث المجردين من حريتهم.، القواعد خاصة بالتدابير غير الاحتجازية ( قواعد طوكيو)؛ وهي الصك الدولي الأهم المتعلق بالتدابير غير الإحتجازية، و هو يحدد اشكالها و ضمانات العمل بها و كيفية وضعها موضع التطبيق. و أقرت الأمم المتحدة كذلك قواعد تتعلق بمعاملة السجينات و التدابير غير الإحتجازية للمجرمات، و ذلك بتاريخ 21/12/2010.  وقد أكدت  قواعد بانكوك على وجوب الإسترشاد بما جاء في قواعد طوكيو. و راعت القواعد كل من النساء الحوامل و القاصرات و الأجنبيات.
 
على أي حال يمكن القول بأن التدابير غير الإحتجازية أضحت جزءاً من قانون حقوق الإنسان الدولي العرفي، و أن الدول ملزمة بالعمل بها ضماناً للغايات الكبرى التي جاء هذا القانون لتحقيقها و في مقدمتها إحترام الكرامة الإنسانية و صيانة الحرية الشخصية.
ويتم العمل بالتدابير غير الإحتجازية في سائر مراحل الدعوى الجزائية حتى مرحلة تنفيذ الحكم الجزائي. ففما يخص المرحلة السابقة للمحاكمة ، ثمة جملة من البدائل الممكنة في هذا المجال من بينها: إلزام المتهم بالحضور إلى المحكمة في موعد محدد بأمر تصدره المحكمة إليه، إصدار أمر للمتهم بالإمتناع عن التدخل في سير العدالة, أو بالإلتزام بسلوك معين من قبيل ترك مكان ما أو عدم الذهاب إليه, أو عدم الإلتقاء بشخص محدد، المكوث في عنوان محدد، تقديم تقرير يومي أو دوري إلى المحكمة، أو الشرطة أو لأية سلطة أخرى ، إيداع جواز السفر أو أية وثيقة شخصية أخرى لدى المحكمة أو الشرطة ، قبول رقابة من خلال جهة تعينها المحكمة ، الخضوع لرقابة إلكترونية  وتقديم ضمانات مالية أو عينية تضمن حضور المحاكمة.
 
وبخصوص بدائل العقوبة السالبة للحرية، فإن قواعد طوكيو تنطوي على عدد كبير من التدابير غير الإحتجازية التي يجوز للسلطات القضائية أن تستخدمها كعقوبات بديلة عن عقوبة الحبس، مع مراعاتها بالطبع لحاجة الجاني إلى إعادة التأهيل ولحماية المجتمع ولمصالح المجني عليه الذي ينبغي إستشارته كلما كان ذلك ممكناً. أما التدابير ذاتها الواردة في هذه القواعد كتدابير يمكن العمل بها عوضاً عن عقوبة الحبس فهي: العقوبات الشفوية كالتوبيخ والتحذير والإنذار،إخلاء السبيل المشروط، العقوبات التي تمس حالة الفرد القانونية مثل حرمانه من بعض الحقوق في المجتمع،  العقوبات الإقتصادية والجزاءات النقدية كالغرامات والغرامات اليومية،الأمر بمصادرة الأموال أو نزع الملكية، الأمر يرد الحق إلى المجني عليه أو تعويضه، الحكم مع وقف التنفيذ أو إرجاؤه  ،الوضع تحت الإختبار والإشراف القضائي، الأمر بتأدية خدمات للمجتمع المحلي، الإحالة إلى مراكز المثول والإقامة الجبرية. ولا تعد حصرية ، فقد أجازت قواعد طوكيو إستخدام " اي شكل أخر من أشكال المعاملة غير الإيداع في مؤسسة إحتجازية " فالدول لها أن تقرر العمل بتدابير غير إحتجازية غير تلك المشار اليها ؛ وذلك في ضوء ملاءمتها للجاني ولمصالح المجتمع والمجني عليه. كما يجوز للقاضي أن يجمع بين عقوبتين منها أو أكثر.
أما في المرحلة التالية للحكم؛ فمن بين بدائل الإحتجاز التي يمكن العمل بها: التصريح بالغياب ودور التأهيل ، إطلاق السراح من أجل العمل أو تلقي العلم، إخلاء السبيل المشروط بمختلف أشكاله، إسقاط العقوبة  والعفو. 
 
مما لا شك فيه أن العمل بالتدابير غير الاحتجازية في البلدان العربية بات مطلباً ملحاً، ويعد  من أبرز ملامح الإصلاحات التي يتوقع إقرارها ووضعها موضع التطبيق في الأعوام القادمة . فالعمل بها قد يؤذن بتحول هذه البلدان من سياسات عقابية لمصلحة سياسات جنائية حداثية ومعاصرة تتفق مع حقوق الإنسان الأساسية وتحقق فعلا ً الغايات المتوخاة من نظام العدالة الجنائية.