عقوبة الحبس مدى الحياة والكرامة الإنسانية
الدكتور محمد الموسى – خبير القانون الدولي لحقوق الإنسان
أصدرت الغرفة الكبرى للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتاريخ 9 تموز / يوليو 2013  حكماً مهماً في قضية ( فنتر / المملكة المتحدة)، حيث قضت فيه بأن الحكم بالحبس مدى الحياة دون أن يتاح للمحكوم عليه فرصة الإفراج عنه أو دون الإعتراف له  بإمكانية مراجعة الحكم أثناء تنفيذ العقوبة بحقه، يعد مخالفاً لنص المادة (3)من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الذي يحظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.  فهذا الحكم يعد حكماً غير مسبوق بالنسبة للمحكمة من زاويتين هما : رجوع المحكمة ذاتها فيه عن اجتهاداتها السابقة التي ذهبت فيها إلى أن عقوبة الحبس مدى الحياة لا تخالف المادة (3) من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وبعدد القضاة الذين صوتوا لصالحه إذ تبنته الغرفة الكبرى للمحكمة بأغلبية 16 صوتاً مقابل صوت واحد رفضه ؛ الأمر الذي يضفي على مضمون الحكم مشروعية كبيرة.
 
افتتحت المحكمة حكمها المذكور بالتذكير بأن عقوبة الحبس مدى الحياة بحد ذاتها ليست عقوبة مخالفة لتحريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. ولكنها شددت بالمقابل على أن عقوبة بالحبس مدى الحياة حتى تكون متفقة مع المادة (3) من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ينبغي أن يتاح فيها للمحكوم عليه فرصة الإفراج عنه أو إمكانية مراجعة الحكم في أثناء مدة تنفيذ العقوبة. وقد استندت المحكمة  لتبرير هذا الموقف على ثلاثة اسباب هي :
 
1 - مقتضيات النظام العقابي التي يجب أن تكون اساساً للإدانة والتي بموجبها لا يجوز الإستمرار باحتجاز شخص عندما لا يتوافر أي من هذه المقتضيات وفي مقدمتها حماية المجتمع وإعادة الإدماج، الأمر الذي يعني من وجهة نظر المحكمة وجوب الموازنة في أثناء تنفيذ عقوبة الحبس مدى الحياة بين هذه المقتضيات والإستمرار في تنفيذ العقوبة. وهذا لا يتحقق إلا عندما يتاح للمحكوم عليه بهذه العقوبة فرصة مراجعة الحكم  بغية التحقق من استمرار مقتضيات ومبررات احتجازه.
 
2 - أوضحت المحكمة أنه إذا لم تكن هناك فرصة لمراجعة الحكم بعقوبة الحبس مدى الحياة أو الإفراج عن المحكوم عليه في أثناء تنفيذ العقوبة، فثمة خطورة من أنه لن يتاح له مطلقاً فرصة إصلاح الخطأ الذي اقترفه. فمهما أبدى المحكوم عليه من استعداد للعودة إلى المجتمع وقابلية للإصلاح، فإنه لن يكون لذلك أي أثر على طريقة التعامل معه وستغدو العقوبة غير متضمنة لحل عادل أو متناسب، فكلما عاش المحكوم عليه مدة أطول كلما ازدادت مدة عقوبته.
 
3 - إن قيام الدولة بحرمان الشخص من حريته دون منحه فرصة استعادتها يعد أمراً غير متفق مع الكرامة الإنسانية، فيتعين على الدول أن تكفل لسائر الأشخاص المحتجزين بمن فيهم الذين حكموا بعقوبة الحبس مدى الحياة، إمكانية  التعديل واستعادة حريتهم. وقد أكدت المحكمة في هذا السياق على وجوب أن تكون عملية إعادة الإدماج محور وغاية الاحتجاز وهي مسألة معترف بها وراسخة أوروبياً وعالمياُ؛ فأشارت إلى نصوص صادرة عن مجلس أوروبا ، وأعمال اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب، وقانون الإتحاد الأوروبي والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
 
وانتهت المحكمة بالنتيجة إلى أن القانون الوطني الذي لا ينص على إمكانية  إعادة النظر في أوضاع المحكومين بعقوبة الحبس مدى الحياة بغية تقييم أحوالهم وقياس مدى تحقيق الحبس لغايات ومقتضيات النظام العقابي ، فإنه يكون مخالفاً لمضمون المادة (3) من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
 
وإذا كان المقام هنا لا يتسع لبسط مفردات هذا الحكم وما جاء فيه، فإنه يستطاع القول بإيجاز أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أقرت فيه للمحكومين بعقوبة الحبس مدى الحياة "حقا في الأمل" يستند إلى الحق في تحريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وهي بالنتيجة أحدثت تغييرا مهما بالنسبة لأوضاع المحكومين بالحبس مدى الحياة في عدد من الدول الأعضاء في مجلس أوروبا. فضلاً عن أنه يعد دليلاً إضافياً على طريقة تفسيرها لفكرة إساءة المعاملة، فهي تلجأ إلى تفسير دينامكي وتطوري يتسق مع مقتضيات الحياة الفعلية لحظة التفسير وليس مع تلك التي كانت سائدة زمن إقرار النص.